الاسلام والدين البهائي

Islam and the Bahá’í Faith


فحص الدلائل


ليس من الغريب ان يرى الموحدون، العديد من التعاليم والمعتقدات المشتركة بين الأديان السماوية. فكلها أتت من اله واحد لتربية البشر وترويج الوئام والتعاون والمحبة بين العباد. وأحد هذه التعاليم الذي تكرر وتردد وفصّلَ في كل الأديان هذه، هو الوعد بتجديد الدين، وهو أن يأتي في نهاية الزمان موعود كل الأزمنة مجدداً للدين "ليملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلمًا وجورا"، "يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْض غَيْرَ الأَرْضِ"، أو كما يعبر عنه المسيحيون في دعائهم اليومي "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض".

وكل أمة وكل فرقة سمت هذا الموعود بإسم مختلف فسموه المهدي المنتظر وسموه القائم وسموه صاحب الزمان، وسماه اليهود برب الجنود والمسيحيون بقدوم الأب السماوي (أو "عودة المسيح بمجد الآب"، او المخلص، او المعزي، أو المنقذ)، والبوذيون برجعة البوذا الخامس، والزرادشتيون برجعة الشاه بهرام، وغيرهم دعوه بأسماء أخرى. وتعددت الأسماء بتعدد الطوائف، والوعد واحد. ويؤمن المسلمون أيضاً بنزول المسيح عيسى بن مريم (ع) كرة اخرى من السماء، بعد قدوم المهدي، ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية...

ومن المشترك ايضًا بين الأديان هو تحذيرهم الناس من الأدعياء الكذبة والأنبياء الباطلين ومن الدجال (أو المسيح الكذاب المذكور في الإنجيل). فكيف يمكننا ان نميز بين الدين الحق والدين الباطل وبين الخطأ والصواب والحقيقة والخيال؟ وهل سنترك وحدنا في حيرتنا في الإجابة على هذا السؤال؟ وأليس من الأسلم ومن الأسهل ان نرفض ادعاء كل مدعي؟

ويلزم أن يكون من البديهي ان نفهم ان وجود هذه التحذيرات هو في ذاته دليل على وجوب مجيء الموعود الحقيقي. فلو لم يكن لدينا أمل إنتظار قدوم المنجي وبشارات لقائه، لما كان للمدعين الكذبة أي أمل في أن يقنعونا بانهم هم المنتظرون أو ان يتجرأوا الإدعاء، وذلك لعدم وجود من ينتظرهم بالمرة.

وقد وعدنا الله بعونه وهدايته ما دمنا مخلصين النية في عزمنا وسعينا لمعرفة أمره وإرادته، وهو المنجي والحافظ من شر المضلين:


"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ". (العنكبوت آية ٦٩)


ولما حذر السيد المسيح(ع) أصحابه الحواريين من الأنبياء الكذبة وسألوا حضرته كيف يمكنهم معرفة هؤلاء، زودهم(ع) بمحك وغربال ليتبينوا الخطأ من الصواب وتفضل حضرته:

"احترزوا من الانبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة.‏ (١٥) من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا.‏ (١٦) هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة. واما الشجرة الردية فتصنع اثمارا رديّة.‏ (١٧) لا تقدر شجرة جيدة ان تصنع اثمارا رديّة ولا شجرة رديّة ان تصنع اثمارا جيدة.‏ (١٨) كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.‏ (١٩) فاذا من ثمارهم تعرفونهم (٢٠)(متى ٧)


وبالمثل نرى في القرآن الكريم:


"وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ". (الأعراف آية ٥٨)


أَلَم ْتَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا ًكَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ". (إبراهيم آية ٢٤ و٢٥)


البحث والتحقيق:

تتعدد الأسباب في اختيار المرء عقيدة أو دينا له. وأكثر الناس يتبعون ديانات اباهم واجدادهم، وهناك غيرهم ممن يتبعون ديانة ما لتَوافق تعاليمها مع آرائهم الشخصية وميولهم، وربما لآخرين كان إنجذابهم بسبب مبادئ معينة أو لإعجابهم برسوم وطقوس دين ما، وغيرهم كان إقبالهم بسبب دلائل وبراهين،أو بسبب أحلام رأوها أو لقناعة واطمئنان في القلب. ولكل شخص طريقه و "إن إلى ربك الرجعى" (العلق آية ٨). وما قد يعتبره البعض دليلا قد لا تكون له أهمية عند شخص آخر ولذا يجب على كل فرد يتحرى حقيقة دين ما لنفسه، ان يستعمل نفس المحك والمعيار الذي استعمله في تقبله لدينه ورسوله فذلك أقرب للإنصاف.

أما الذي لا يقبله منا الله في قبولنا أو في رفضنا لدين ما، فهو التقليد الأعمى واتباع الآخرين أو الأسلاف من غير تحقق أو تحري شخصي. وتنص على هذا الكثير من الآيات الكريمة ومنها:


"وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ٦٧ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا". (الأحزاب آية ٦٨)


"وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ". (الأنعام آية ١١٦)


نقاط للتأمل في ما يتعلق بالإدعائات والبراهين:

ولعل احدى نقاط البداية في التحري هي ايماننا بأن الخالق الرؤف الرحيم لا يبعث رسولا دون أن يؤهله ويزوده بالبراهين الكافيه والشواهد (ومع ذلك، لاقى كل المبعوثين الإعراض والشدائد):


"تأملوا حينئذ ماذا كان سبب هذه الأفعال، ولمَ كانوا يسلكون بهذه الكيفية مع طلعات جمال ذي الجلال؟ إذ كل ما كان سبب إعراض العباد وإغماضهم في تلك الأزمنة، قد أصبح اليوم أيضًا بعينه سبب غفلة هؤلاء العباد. فإذا قلنا ان الحجج الإلهية لم تكن كاملة ولا تامة، ولذا كانت سببا لإعتراض العباد، فإن هذا يكون كفراً صراحاً. لأنه بعيد جداً عن فيض الفياض، وبعيد عن واسع رحمته ان يجتبي نفساً من بين جميع العباد لهداية خلقه، ولا يؤتيها الحجّة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذب الخلق لعدم إقبالهم اليها. بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطاً على كل الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدهر انقطع فيه فيضه...". (بهاء الله - كتاب الإيقان)


ومن الطبيعي أن يطلب الناس البراهين قبل ان يقرروا حقيقة أي إدعاء جديد، ونعود ونكرر ان الإنصاف يتطلب منا ان نتمعن ولو قليلا اسباب إعراض الناس في السابق، فكل ديانة جديدة قوبلت بالإعراض الشديد في بدايتها. وكذلك أيضاً ينبغي لنا أن نتفكر في الأسباب الشخصية التي جعلت كل منا يعتنق دينه.

ولنرجع الآن الى براهين الأديان السابقة والمحكات والمعايير التي استعملها الناس في ايمانهم بمن سبق من الرسل. فنرى على سبيل المثال عندما نطَّلع على تاريخ وأعمال الرسل نرى ان احد براهينهم كان في ذواتهم وانفسهم، مثل الشمس لا حاجة لها ببرهان، ولكن قبل ان نتوقع من الناس ان يقتنعوا بهذا، دعنا ننظر الى بعض المقاييس التقليدية الأخرى.

ونرى ان أهم هذه البراهين، كان الكتاب الذي انزل على هؤلاء الرسل. وبناءاً على القرآن الكريم، نرى ان الكتاب يكفي ان يكون البرهان الوحيد لأولي العقل والألباب:


"أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". (العنكبوت آية ٥١)


"وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ٣٨ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ". (الرعد آية ٣٩)


ورغم ان حضرة بهاء الله لم يكن له إلمام بعلوم الفقه ولم يدخل المدارس ولم يتعلم سوى بعض مبادئ القراءة والخط وفنون الفروسية والصيد كما كان المعهود عليه لابناء النبلاء في أوائل القرن التاسع عشر في ايران (فقد كان والده وزيرا للملك في طهران) نرى ان يراعته تركت لنا عشرات الألوف من الصفحات وهي متوفرة لكل طالبي الحقيقة ليقرأوا بانفسهم ما جاء به. فخلال الأربعين سنة التي قضاها في الحبس والنفي منذ بداية دعوته الى وفاته كتب ما يزيد عن مائة مجلد باللغتين العربية والفارسية مما يعتبره البهائيون كتابات الوحي. وكثير من هذه الكتابات تم ترجمتها الى ما يزيد عن ثمانمائة لغة وهي موجودة في المكتبات في انحاء العالم وفي الإنترنت.

أما المعيار أو المقياس الثاني لمعرفة المبعوث الحق فهو ما ندعوه بعلم الغيب. فالقرآن الكريم يبين لنا ان علم الغيب مقصور على الله وحده جل جلاله وعلى من يوحي اليهم الله من الرسل وهذا العلم وهذه البراهين والآيات لاتتاح ولا تباح إلا بإرادة الله:


"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا". (الجن آية ٢٦ و٢٧)


"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ...". (آل عمران آية ٤٤)


"وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ". (الرعد آية ٣٨)


وعندما ندرس حياة حضرة بهاء الله وكتاباته وتاريخه، نرى انه بالإضافة الى تحقيقه نبؤات الأديان الأخرى، تنبأ نفسه بالعديد من الوقائع التي تم تحقيقها من حوادث ووقائع تاريخية شملتها خطاباته للملوك والأباطرة وبابا الكنيسة الكاثوليكية في روما عندما حذرهم وقت ما كانوا في أوج عظمتهم وسطوتهم بان السلطة سوف تؤخذ منهم لاستخفافهم بدين الله وتكبرهم، الى وقائع حصلت في ميادين العلم والإختراعات والتصنيع، الى تنبؤه في العقد السابع من القرن التاسع عشر بدمار برلين كرتين، الى تنبؤه بأن رغم كل هذه الحروب المدمرة فإن الصلح الأعظم لابد منه وما نراه اليوم من صخب وضجيج هو عبارة عن طوي بساط نظم العالم القديم ليبسط بدله النظم البديع الجديد:


"قد اضطرب النظم من هذا النظم الأعظم واختلف الترتيب بهذا البديع الذي ما شهدت عين الإبداع شبهه". (بهاء الله - الكتاب الاقدس فقرة ۱۸١)

وأيضا:

"لعمري سوف نطوي الدنيا وما فيها ونبسط بساطا آخر".


هذه التنبؤات وعديد غيرها موجودة في رسالاته للملوك وفي كتاب احكامه وهي موجودة باللغة العربية في موقع ثاني وهناك نماذج اخرى من هذه النبؤات باللغة الانجليزية في موقع آخر في الانترنت.

والى جانب تحري الحقيقة في شخص مدّعي البعثة، نستطيع أيضاً ان نختبر ان كان مجيء هذا الشخص قد حقق نبؤات الأديان السابقة لأن ذلك من ضمن ميثاق النبيين وهو ان يبشروا الناس بقدوم المبعوث اللاحق ويمدوهم بلوازم التحقق التي تعينهم بمعرفته. فقبل ولادة موسى(ع) كان الكهنة قد حذروا فرعون من مجيئه من بين بني إسرائيل ولهذا أمر بقتل كل المواليد الذكور منهم في تلك السنة مما اضطر والدته (ع) ان تلقيه في اليم وحمله الماء الى قصر فرعون ليتم الله أمره.

وعندما ولد عيسى(ع) كان كهنة المجوس يبحثون عنه بعد ان رأوا في السماء نجما عدّوه علامة لظهوره كما كان موجودا في كتبهم. وجاء بعضهم الى بيت لحم باحثين عنه ومستبشرين بلقاءه. وكذلك كانت الوعود كثيرة في التوراة تبشر بقدومه. وقبل ان يعلن حضرته للناس عن كونه المسيح المنتظر قام يحيى بن زكريا(ع) داعيا الناس اليه ومبشرا بمجيئه ومعمداً لهم ليطهروا انفسهم استعدادا للقائه واخيرا فدى نفسه في سبيله.

اما عن الرسول محمد عليه صلوات الله وسلامه فكان روزبة(ر)، - وسمي في بعد بسلمان الفارسي -، في خدمة أربعة معلمين، كلما أتت المنية احدهم ارسله الى التالي حتى بعثه رابعهم حين قََرَبَهٌ الأجل الى الحجاز مبشرا اياه بانَّ عن قريب سيفوز بوجه الحبيب في تلك الأرض المنورة.

وحضرة بهاء الله كان مبشره السيد علي محمد من سلالة الرسول(ص) ولقبه الباب. وفي سنة ١٢٦٠ هجرية أعلن حضرة الباب بانه هو القائم الموعود وبأنه قد جاء مبشرا لمن سيأتي بعده. ودامت بعثته ست سنوات انتهت بفداء روحه، واستشهاده في سبيل محبوبه. وفي خلال تلك السنوات القصار، فدى ما يزيد عن العشرين الفا من اتباعه أنفسهم، شهادة لصدق تلك الدعوة وقدوم موعود كل الأزمنة ونجد بعض قصصهم في كتاب مطالع الأنوار.

ونبؤات الأديان السابقة التي حققت في مجيئ حضرة الباب ومجيء حضرة بهاء الله عددها كبير ولا تسعها صفحات هذا الموجز في الوقت الحاضر، وتشمل في نطاقها على سبيل المثال اتفاق التفاصيل، و سنة الدعوة مع المواعيد المذكورة ليس في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فحسب بل في الكتب السماوية الأخرى، وكذلك تشمل مكان الدعوة وصفات الموعود وفترة حكمه. (تفاصيل بعض هذه النبؤات موجودة في موقع آخر أو تحت أبواب أخرى في هذا الموقع).

ومقياس آخر لصحة أي دعوة، هو القوة الخّلاقية للكلمات الإلهية التي ينطق بها هؤلاء المبعوثون. أي ان الأفكار والتعاليم الجديدة التي تأتي من افواههم المباركة مما هو جديد على القوم وغير مألوف، يحصل تطبيقها ويعمل الناس بها وكأنها تجسدت من العدم ونفخت فيها حياة خاصة بها وتصبح حقيقة يتداول بها الناس وجزءاً من الحياة اليومية. فمثلاً الأفكار التي تتعلق بوحدة العالم الإنساني ومحو التعصبات العنصرية ومساواة المرأة والرجل والنظام الإقتصادي العالمي وغيرها مما صار مألوفا عند أغلب الناس في اواخر القرن العشرين، كلها كانت أفكار جديدة وغريبة على الناس عندما أتى بها حضرة بهاء الله في القرن التاسع عشر وتطلبت تغييرات جذرية في المجتمعات.

والربيع الروحاني يعطي حياة جديدة للأرض بصورة مشابهة لفصل الربيع الطبيعي، وكما تأتي السيول العرمة بعد انصهار الثلوج وأمطار الربيع الدافقة، جارفة في طريقها كل شيء ويعقب ذلك أزدهار السهول والهضاب وانتعاش الأرض في نموها الجديد، كذلك يبعث الدين الجديد حياة في كلا العالمين، الروحاني والإنساني كما تعرّفَ عليه كل دارس جاد للتاريخ. فكل دين جديد اتى، تبعته في ايام أوجِهِ حضارة بهرت أعين الناس وشمل تأثيرها المؤمنين وغير المؤمنين. ثم بعد ذلك وكلما ضعف الدين وتفرق أصحابه تدهورت معه هذه الحضارة. ومثَلٌ تأثير الدين على الحضارة المادية كمثل طلوع شمس اليوم الجديد تعطي النور والدفء لكل ما على الأرض من حي وجامد، وحتى النباتات الظلية التي لاترى أشعة الشمس مباشرة يأتيها أثرها بطريقة غير مباشرة، ولا حياة لها دونها.

واليوم لا إنكار للتغييرات الجسيمة في العالم وبعضها مجيد ورائع وبعضها مهلك ومدمّر التي لم يسبقها في تاريخ الإنسان سابق ولم ترَ مثلها العيون ولا حتى العقول في مخيلتها. وهذه التغييرات السريعة جدا منذ أوائل القرن التاسع عشر وخصوصا في القرن العشرين هي في كل مجالات الحياة، إجتماعية واقتصادية، علمية وتكنلوجية، أخلاقية وسياسية وغيرها، ولم يسجل مثلها التاريخ في اية قرون. ويليق لكل منصف وعلى الأقل لإشباع حب الإستطلاع ان يتفكر في اسباب هذا التغيير المفاجئ بعد ما كان التطور في كل شئ بأشد البطء عبر القرون والأحقاب.

ونرى في تاريخ الأديان ان دين الله الواحد، دين التسليم والتوحيد، أٌعْطِيَ لنا بالتدريج مشبعا لإحتياجاتنا ومنعشا لروحانياتنا. وكل الأديان كان كامنا في طاقاتها توحيد العالم الإنساني لو كان ذلك ضمن الخطة الإلهية لذلك الوقت. ولكن معظم الناس عبر التاريخ (ما عدا القليل من التجار أو أفراد الجيوش وغيرهم) لم تكن تسنح لهم الفرص أو الحاجة خلال حياتهم لمعرفة غير القليل عن باقي العالم، ولو كان أٌعلِنَ في الدين مبدأً مثل مبدأ وحدة العالم الإنساني كأفراد اسرة واحدة ومواطنين كوكب واحد لكان ذلك في تلك الأزمان واحد من المثاليات أو الأفكار الصالحة للكتب وليس للتطبيق العملي. ولكن حينما حان الأوان لإتمام الوعود الإلهية في أن يسود السلام العام، "يوم تبدل الأرض غير الأرض" (١٤:٤٨) ويوم تجتمع القبائل، أعلن حضرة بهاء الله:


"يعتبر العالم في الحقيقة وطن واحد ومن على الأرض اهله"


وأيضاً - "كلكم اثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد"


ولكن هذا الإعلان لم يترك لأن يدرح مع المثاليات اليوطوبية، بل نجد ان كلّ قوى العالم قد سٌخّرت ليصبح هذا الإعلان حقيقة فنرى ان الثورة الصناعية مثلا جائت بوسائل النقل الحديثة مثل القطارات السريعة والبواخر والطائرات التي سهلت وسرعت السفر عبر القارات بعد ما كان الناس ولألوف السنين لم يكن لهم سوى السفر على الحيوان أو السفن الشراعية. وما كان يأخذ قطعه شهور وسنين صار يقطع في ساعات.

ولكن الأعظم من الثورة الصناعية في لمِّ شمل العالم فهي الثورة في وسائل الإتصالات والإعلام. وما بين يدينا الآن من وصل العالم آنياً عن طريق الإنترنت والهاتف والتلفزيون والأقمار الصناعية كان قد سبقها المذياع واللاسلكي، وقبلها جميعاً وأمهن جميعا كان الإتصال السلكي البرقي التلغرافي، وأول كل البرقيات كان أرسلها مخترع التلغراف السيد مورس في شهر مايس (أيار) سنة ١٨٤٤ وترجمة نصها "ما عَمَلَ الله" (what hath God wrought). ومايدعوا للتأمل ان تاريخ ارسال هذه البرقية كان في اليوم التالي لإعلان حضرة الباب دعوته في ٢٣ مايس ١٨٤٤. وما نراه اليوم من علائم لزوم التعاون، واعتماد كل دول العالم على بعضها في الاقتصاديات ومجالات العلم والبحث والثقافة والإختراع، واضح للعيان، واهتمامنا بما يحصل في باقي انحاء العالم، ووصول الأخبار الينا آنيا أو في ثواني، لم يسبق له مثيل في التاريخ ولم تكن كرتنا الأرضية أبدا أصغر مما هي عليه اليوم من قرب المسافات وسرعة الإتصالات.

وكل المبادئ التي أعلنها حضرة بهاء الله في القرن التاسع عشر وكانت غير مألوفة في يومها مثل نبذ التعصبات العنصرية ومساواة المرأة والرجل وتكوين مجلس عالمي يضم الأمم وغيرها، كلها أصبحت عبارات تتداولها الألسن اينما التفتنا في يومنا الحاضر.

ونعود الأن الى موضوع ان من براهين المبعوثين هو عين ذاتهم، ونعيد القول بان للمبصرين لاتحتاج الشمس الى دليل وبرهان، وكذلك يجب ان يكون الحال مع من يبعثهم الله.

وحياة حضرة بهاء الله واقواله واعماله قد سجلها المؤرخون بدقة وتفصيل وخاصة لقرب عهدها. وكتب عنه من المؤرخين، بهائيون وغير بهائيين ونشجع الزائرة الكريمة والزائر الكريم أن يطّلعوا في الكتب المحايدة ليتبين لهم ما كان عليه في حياته واعماله، وهل كانت مطابقة لتعاليمه وما وصى الناس به أم لا، وكذلك ليتبين لهم نطاق علمه ويتوضح لهم ان كان هذا العلم مكتَسَب أم علم لدني ووحي أوحي له. وكان قد لاقاه المئات أو الالوف من الأشخاص، بين عدو وصديق، وترك الكثير منهم لنا انطباعاتهم مسجلة على الورق. وترك في نفس كل من لاقاه انطباعا قويا لاينسى، فمحبيه كتبوا عن رأفته وحنانه وحبه العظيم وعدله وإحسانه وشجاعته، وعناءه ومقاساته، وبساطة حياته وتركه الدنيا وما فيها من راحة وملذات، وكتبوا عن فصاحته وبلاغته بلغة لم يدرسها أو يترعرع في ظلها، وكتبوا عن بهائه ومجده. وأعدائه ايضاً أو من رآه ولم يؤمن به، كتبوا عن إنطباعاتهم عنه وعبروا عما شاهدوه أو شعروا به حين لقائه. ومنهم من كَتَبَ بإنصاف رغم عدم إيمانه، ومنهم من تهجم عليه واتهمه بالسحر والتلاعب بالعقول وحتى بعضهم لاموا شعورهم هذا على الشاي الذي قدم لهم في ضيافته وادعوا انه ولابد كان مسحوراً. ونترك الزوار الكرام ليتأملوا هذه الآيات الكريمة:


"ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ". (يونس آية ٧٥ و٧٦)


"ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون". (الزخرف آية ٣٠)


"وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين". (الأحقاف آية ٧)


"انّ ربّكم الرّحمن يحبّ اَن يری من في الاكوان كنفسٍ واحدةٍ و هيكل واحدٍ ان اغتنموا فضل اللّه و رحمته في تلك الايّام الّتی ما رأت عين الابداع شبهها طوبی لمن نبذ ما عنده ابتغاءِ لما عند اللّه نشهد انّه من الفائزين".
- حضرة بهاء الله
%
تقدم القراءة